مشاهد يومية من حياة شخص مهدد!

عن الكاتب:
مدافع شاب عن حقوق الانسان، يعمل منذ 10 سنوات على قضايا حماية المدافعين/ات وبناء قدراتهم، وتعزيز الحق في التنظيم لمنظمات المجتمع المدني.

تحذير: قد تسبب قراءة هذا النص استجابة عاطفية قوية لدى البعض.

مشهد 1:
نهار داخلي
عادة ما يبدأ عقلي التفكير بشكل متسارع بمجرد أن استيقظ وقبل أفتح عيني. هذا الصباح بدأ بفكرة مبهجة. احتفظ في رأسي بقائمة طويلة لأماكن أنوي زيارتها في شتى أنحاء البلاد. صورة لوادي صخري خلاب في سيناء نشرها صديق على صفحته على موقع فيس بوك، شروق الشمس من شاطئ مخيم على نيل أسوان رأيته عند صديق آخر مقيم بذات المحافظة. متحف غير مشهور قرأت تقريرًا صحفيًا عنه، طالته يد الإهمال ولكنه لا يزال مبهرًا… تداعت تلك الصور لذهني كلها بشكل جميل ومريح وقررت أن اسجلها في مكان ما حتى لا تضيع وسط متاهات الحياة اليومية. تفتق ذهني عن فكرة غير تقليدية للتعامل مع هذا الأمر. سأرسم خريطة كبيرة للبلاد على لوح ابيض وأعلقها على الحائط، وسأستخدم الأوراق ذاتية اللصق في تحديد المعالم التي أنوي زيارتها على الخريطة، وربما أقوم كذلك بطباعة بعض الصور لتلك الأماكن وتعليقها على خريطتي الجديدة لتكون أكثر بهجة. لحظة! لن أقوم برسم الخريطة، ستكون بشعة المنظر، سأستعين بصديقي س فمهاراته في رسم التفاصيل الدقيقة مبهرة. ها قد اكتملت الفكرة في ذهني قبل أن أرفع الغطاء عن جسدي.
خلال تلك الدقائق وببطء يرتفع تركيزي وتبدأ صورة العالم من حولي في الوضوح. ماذا بقي لأنفذ فكرتي الجميلة؟ نعم نعم، أن أشتري اللوح الأبيض وأتصل بالصديق محمد لأطلب منه رسم الخريطة لكن فجأة تسارعت في ذهني صورًا أخرى من عالم مختلف. صور لرجال أمن يرتدون ملابس مدنية يقتحمون غرفتي ويقلبونها رأسًا على عقب، صورة لما حملوه معهم بعد حملتهم، كتب حقوقية الطابع، كل ما هو اليكتروني داخل الغرفة، والخريطة! نعم، كيف فاتني هذا؟ خريطة محدد عليها معالم سياحية بارزة، ألا تصلح تلك الخريطة كحرز في قضية متهم بالإرهاب أمام نيابة أمن الدولة العليا؟ لقد سبقي إلى هناك العديد من الزملاء والزميلات الناشطين في الدفاع عن حقوق الإنسان ولقد كان تهمة معظمهم الانتماء/ مشاركة جماعة إرهابية إلى جانب اتهامات أخرى. ستكون خريطتي بمثابة حرز ذهبي للضابط الذي سيقوم بكتابة محضر الضبط. لا حاجة لدي لأي خرائط سأكتفي بحفظ الأماكن التي أرغب في زيارتها في ذهني.

مشهد 2:
ليل داخلي
شيئا فشيئا يتسرب النعاس إلى ذهني بعد يوم عمل طويل، لقد انتهت محادثتي مع أحد الأصدقاء وتأكدت من عدم وجود رسائل جديدة في صندوق بريدي الاليكتروني. وانتصرت مجددًا في مواجهة بعض الأفكار السخيفة عما مضى، أو ما هو آت، ونجحت في طرد صورة شخص ما من ذهني لا أريد أن تحتل مكانًا ولو معنويًا من حياتي. أنه النوم إذا. مكافآتي الصغيرة اليومية على ما قمت به من مجهود خلال اليوم. لحظة! أشعر ببعض البرد، لا تبدو “بطانية” واحدة كافية لمواجهة برد هذه الأيام. سيكلفني الأمر رحلة قصيرة لخزانة الملابس في الناحية الأخرى من الغرفة لاستخراج غطاء إضافي. هممت بفعل ذلك غير أن فكرة ما فرضت نفسها علىّ بشكل كامل. اثناء اجرائي لمقابلة لتوثيق معاناة أحد المدافعين عن حقوق الإنسان في السجون أخبرتني زوجته أن إدارة السجن قد قبلت ادخال “بطانية” واحدة له واعادت لها الثانية. تتكرر شكوى السجناء من البرد مما يعني بداهة أنه لا توجد أغطية كافية لديهم. إذا كان الأمر كذلك فلنبدأ الآن تمارين التكيف. يجب أن أعتاد على استخدام “بطانية” واحدة. كل الأمور قابلة للتعلم. لقد فطر الله الإنسان على التكيف والنجاة. لذا سأكتفي هذه الليلة بـ “بطانية” واحدة، حتى أذا جاءت ليلة بعيدة أو قريبة وكان ما هو متاح لي فيها “بطانية” واحدة، فلتكن هذه البطانية كافية لمنحي الدفء والأمان.

مشهد3:
نهار خارجي
تحدثني صديقتي بشغف عن مشروعها الجديد في تنظيم الرحالات الترفيهية الذي تنطلق غالبية رحلاته إلى المعالم الطبيعية الخلابة في جنوب سيناء. تدعوني في اهتمام لمشاركتها أحد تلك الرحلات وتعدني ببرنامج حافل وخصم على اشتراك الرحلة. تقول ممازحة بلهجة خبيثة: هناك الكثير من الفتيات الجميلات في هذه الرحلة يا “صاحبييييي”.
زرت مدينة دهب قبل عام ونصف، رأيت جمالًا لم تعتده عيني التي تماهت مع قبح القاهرة خلال سنوات ثلاث من الإقامة في تلك المدينة الملعونة. لا يزال هناك نويبع وطابا ورأس شيطان، جمال أضافي تمنيت أن اراه. غير أن صديقتي وأنا كنا نعرف أن هذا العرض المغري لا يناسبني.
يعرف كل زوار جنوب سيناء كيف يتم استيقافهم بشكل “روتيني” فيما لا يقل عن 10 نقاط تفتيش أمنية حتى تستغرق رحلتهم ضعف مدتها الطبيعية حتى يصلوا لمدينة دهب أو ما بعدها. في زيارتي السابقة وأثناء الاستيقاف “الروتيني” بكمين شرم الشيخ، صعد إلى الحافلة التي تقلني فرد من جهاز الأمن الوطني وتفحص بطاقات الهوية للركاب بشكل “روتيني” وأخذ بعضها للكشف عليها. حسنًا أنا أعلم ما هو التالي. لقد وثقت قصتين مشابهتين لزملاء أثناء عملي على مشروع بحثي حول التمييز الذي يتعرض له المدافعون عن حقوق الإنسان في مصر. لقد أصبح الآن لدي ثلاث قصص أنا بطل أحداهن! كما توقعت بالضبط عاد فرد الأمن ومعه كل بطاقات الهوية عدا بطاقتي وطلب مني أن أتبعه وطلب من سائق الحافلة التحرك.
جلست حر الحركة في مكان مكشوف داخل النقطة الأمنية لساعات. أجريت بعض الاتصالات الهاتفية احتياطًا للسيناريو الأسو. بمضي الوقت أنضم إلى أخرين، غير أن قصصهم سرعان ما تنتهي باكتشاف أن أسماءهم فقط تتشابه مع أسماء عناصر مطلوبة أمنيًا. أما أنا فكنت مطلوبًا بالاسم، لا مجال للخطأ هنا.
بعين الخيال أرى شخص يجلس في مكتب فخم ويفكر، ما الذي أتى بي لنطاق عمله؟ هل مجرد زيارة بريئة أم أن لي أغراض أخرى؟ تفرض الدولة ستارًا حديدًا معتمًا على ما يجري في سيناء، وبطبيعة الحال غير مرحب بحقوقي أو باحث أو صحفي غير مدجن فيما هو خلف هذا الستار. الخطوة التالية بالنسبة لي أما النقل لأحد نقاط التحقيق أو “الافراج” عني. حسنًا، لقد تطب الأمر ثمان ساعات كاملة قضيتها في النقطة الأمنية حتى قرر “باشا” ما، أنني لا أمثل خطرًا على الأمن القومي في الوقت الحالي، وعليه سُمح لي بالمرور لألحق بأصدقائي الذين قتلهم القلق عليَ واستقبلوني بالدموع.
ما حدث كان “روتينًا” بالنسبة لي، يتكرر في كل مرة أسافر فيها خارج البلاد. الآن ضممت منطقة جنوب سيناء لـ “الدول” التي عليّ أن أقلق قبل السفر إليها!

مشهد 4:
نهار داخلي
أنهيت كتابة هذا النص، أحتاج أن أعرضه على صديق/ة أو أكثر، لاستطلاع رأيهم ربما، أو لمشاركتهم ما أفكر فيه فحسب. تلك أحد نقاط التوصيف الوظيفي لمهنة “صديق/ة”. لكن ربما تسبب قراءة هذا النص استجابة عاطفية عنيفة إذا قراءه شخصًا مر/يمر بظروف مشابهة. لا أريد أن أكون سببًا لإفساد يوم أحد أصدقائي فلديهم ما يكفي من الأسباب.
حسنًا وبعد أجراء عمليات حسابية بسيطة فكل أصدقائي المقربين “مهددين” مثلي، حتى من غادر منهم البلاد لم يخرج سليمًا معافى من معاركه هنا. “مهدد” وأصدقائه من “المهددين” يحتاجون لمتطوع غير “مهدد” لقراءة هذا النص وابداء الرأي!

مقالات مشابهة