من يكتم أصوات النساء؟ السلطة ليست وحدها على القائمة
عن الكاتبة:
صحفية، ومدافعة عن حقوق الإنسان
لحظات من الترقب والقلق والحماس في نفس الوقت، سبقت الإعلان عن التحقيق الفائز بالجائزة، ليليها فرحة عارمة وتصفيق حاد غمر القاعة التي ضمت عددا ليس بقليل من الزميلات والزملاء من مصر. كان ذلك ضمن إحدى الفعاليات الصحفية الإقليمية، والتي أعلن خلالها عن فوز مجموعة من التحقيقات في المسابقة النهائية لأفضل تحقيقات العام، ليفوز بها زميلي المصري عن تحقيقه المنشور قبلها بأشهر قليلة. بمنتهى الحماس، ترجلت عن مقعدى لأشارك في التصفيق مع الجمع بحرارة، للحظات قبل أن أشعر بتلك الغصة التي انتابت قلبي حينها عندما انتبهت أنني لا يجب أن ألتفت إلى صديقي لأهنئه بالفوز، كي لا تنكشف هوية منتج التحقيق أمام الجميع. واكتفينا بنظرات متبادلة خلسة يشوبها بعض الخوف والقلق خشية أن يرانا أحد الحضور، فينكشف المستور ويسقط القناع عن صديقي الذي لم يتمكن حتى من استلام جائزته بنفسه أو إظهار فرحته بها، نظرا لأن التحقيق كان منشورا تحت اسم مستعار تجنبًا للمخاطر الأمنية التي قد يتعرض لها في مصر.
في البداية، اعتقدت أن السبب وراء المرارة التي اعترتني في ذلك الوقت، لعدم تمكني من دعم صديقي وتهنئته بفوز تحقيقه المميز -بتقييم لجنة تحقيق دولية تضم كبار الصحفيات والصحفيين من مختلف أنحاء الوطن العربي والعالم- هو أن ذلك الموقف “ضغط على الجرح” القابع في داخل العديد منا كصحفيات وصحفيين من مصر، التي احتلت المرتبة 166 من أصل 180 دولة على مؤشر التصنيف العالمي لحرية الصحافة للعام 2021 الذي تصدره مؤسسة مراسلون بلا حدود الدولية، والتي وصفت جمهورية مصر العربية بأنها “أحد أكبر السجون في العالم بالنسبة للصحفيين”.
لاحقًا، أدركت أن تذكر الوضع المتدني لحرية الصحافة والتضييق المتزايد على حرية التعبير بالنسبة للصحفيات والصحفيين في مصر ، لم يكن هو السبب الوحيد في الألم الذي حل بي لحظة فوز صديقي بالجائزة. انتبهت إلى ذلك بعد أيام قليلة من هذه الفاعلية، عندما نشرت أنا أيضًا مقالًا تحت اسم مستعار وحاولت فيه بقدر الإمكان إخفاء هويتي، بالرغم من أنه كان يتناول تجربة شخصية ويحمل أفكارًا ومشاعر صادقة، كنت أتمنى لو تمكنت من مشاركتها مع القارئات والقراء باسمي الحقيقي. لكنني اضطررت حينها إلى تجهيل هويتي، لأنني كنت أدرك جيًدا أن الثمن الذي سأدفعه عند معرفة كاتبة المقال كان أكبر من طاقتي على الاحتمال والمخاطرة. لذلك، فضلت النشر تحت اسم مستعار، حتى أنني لم أتمكن من مشاركة المقال على صفحاتي الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي مع صديقاتي وأصدقائي كالمعتاد في نشر الموضوعات التي تحمل اسمي عليها.
العجيب في ذلك الأمر هو أن المقال المنشور لم يكن يحمل أي طابع سياسي أو معارض، أو حتى يمس السلطة من قريب أو من بعيد. بالتالي، لم يكن هناك أي مخاطر “أمنية” من نشره بالاسم الحقيقي. لكن في الوقت نفسه، كان هناك نوع آخر من المخاطر التي قد تواجهني إذا تم البحث عن اسمي على متصفح جوجل، ليظهر على المقال ويُعرف أنني من كتبته، ليس لأي سبب غير أنني امرأة. وهنا، أيقنت أنه يوجد نوع آخر من تقييد حرية التعبير خاص بنا نحن النساء، حيث أن الوضع كان سيصبح مختلفا لو كان كاتب المقال رجلًا وليس امرأة.
سلطة مخصصة للنساء
أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي دخل فيه والدي مسرعًا إلى غرفتي يطالبني بمراجعة بعض أعمالي المصورة (مقاطع فيديو)، التي كنت أعمل على إنتاجها في ذلك الوقت، كي “يطمئن” على نوع المحتوى الذي أقدمه، و”يقرر” إن كان مناسبًا للنشر أم لا! سبق هذا الموقف بأشهر قليلة، واقعة أخرى تدخل فيها أبي كذلك حينما “ورد إلى مسامعه” أيضا، أنني أشارك في ورشة تدريبية للتمثيل المسرحي، مطالبًا (أو آمرًا) بالتوقف فورًا عن الاستمرار في الورشة والاعتذار عن استكمال العرض المسرحي، الذي لم يكلف نفسه حتى عناء السؤال عن أي شئ أو أي قضية يناقش. العديد من المواقف السابقة وما يشبهها تكررت على مدى سنوات، قبل أن أستسلم تماما لفكرة أنني تحت “المراقبة”، وأن هذه الرقابة، ليست السلطة السياسية هي الفاعلة الوحيدة فيها- رغم ضلوعها فيها بالطبع- بل هناك عيون أخرى تتربص بي على الفضاء الإلكتروني وصفحات التواصل الاجتماعي وأي وسيلة نشر أخرى، لتخبر العائلة (وبالتالي المجتمع) بجميع تحركاتي ومشاركاتي والإنتاج المعرفي الذي أشارك فيه كذلك، لحظة بلحظة، والسبب الوحيد في ذلك هو كوني امرأة فقط ليس أكثر.
عندما استقرت هذه الفكرة بداخلي في ذلك الوقت، كان لابد من إيجاد سبيل آخر للنجاة من أجل الاستمرار في العمل، والهروب ليس فقط من السلطة السياسية بل من السلطة المجتمعية كذلك. بدأت على سبيل المثال منذ سنوات بـ “فلترة” حساباتي الشخصية من كل من “أشتبه” به/ا في “مراقبتي”، تجنبًا لحدوث صراعات مع الأسرة، والتي قد تصل إلى مطالبتي بترك عملي مثلا أو أضعف الإيمان قد تجر علي العديد من المشاكل والحروب النفسية التي أنا في غنى عنها، فضلًا عن اتهامات بـ”الجنون” أو “الإلحاد” أو “سوء السلوك” أو غيرها من الاتهامات التي تسقط فوقي وفوق غيري من النساء والفتيات، إذا تجرأن فقط وأبدين أي اختلاف عن الصورة النمطية أو اتخذن مسارات حياتية مختلفة عن تلك التي رسمها لهن المجتمع، ليحكم قبضته على النساء ويحرمهن حتى من أبسط حقوقهن، كالتعبير عن أنفسهن ومشاركة أفكارهن ومناقشة قضاياهن بحرية.
ملاذ خانق
“من بعد موت سارة حجازي اكتشفت قد ايه المجتمع مؤذي وجاهل، حتى الناس اللي فاكراهم لطاف. اتصدمت فعلا من كم الكراهية والحقد على شخص مش مؤذي، ولا بيمثل أي تهديد، مبقاش عايش أصلا. فما بالك لو حد عايش وبينشر أفكار مختلفة عن أفكارهم. أعتقد دي طريقة كويسة أحمي نفسي بها من الوصم والتشهير ومحاكم التفتيش.. إلخ، اللي ممكن تكون مصدر إيذاء ليا وللي حواليا”. وصلتني هذه الرسالة من إحدى الصديقات الصحفيات، تشاركني فيها أنها أيضا اضطرت إلى نشر بعض أعمالها تحت اسم مستعار، كنوع من الحماية لنفسها، وكذلك للهروب من المخاطر التي قد تواجهها في المجتمع عند مناقشة القضايا التي تعتبر “حساسة” مجتمعيا.
تجهيل الهوية في الكتابة النسائية، واللجوء إلى أسماء مستعارة ليست حديثة العهد، فلقد لجأت العديد من الكاتبات في القرنين الثامن والتاسع عشر إلى نشر إسهاماتهن باستخدام أسماء مزيفة، وغالبًا ما تكون أسماء مذكرة في أحيان كثيرة. تفسر ذلك الكاتبة الإنجليزية فيرجينيا وولف في كتابها “غرفة تخص المرء وحده”، بأن لجوء النساء إلى الكتابة خلف ستار أسماء الرجال، كان بمثابة “الملاذ” لهن، وأن غياب التوقيع على الأعمال الكتابية النسائية، كان يعتبر أحد “تقاليد العفة”، الذي استمر في حتى نهاية القرن التاسع عشر. تذكر من أمثلة كاتبات هذا العصر: كارر بل وجورج إليوت وجورج ساند، وجميعها أسماء رجال لجأت إليهن الكاتبات اللواتي بينت كتاباتهن أنهن كن “ضحايا للصراع الداخلي”، بحسب وصف فيرجينا، لكنهن لجأن لاستخدام أسماء رجال على كتاباتهن، حتى يمتثلن إلى “فروض الطاعة والتقاليد التي فرضها الرجال”، ولا تسمح بشهرة النساء.
نستنتج من ذلك أن الهيمنة الذكورية على الإسهامات الكتابية النسائية، بدأت منذ زمن بعيد، ناضلت فيه النساء لتعبر عن أنفسها في مجتمعات رافضة لخروجهن عن بوتقة الأبوية، والسماح لهن بالحديث على الملأ عما يشغلهن ومحاولاتهن المستميتة في التعبير عن تجاربهن، في ظل القمع الذكوري الذي يعشنه منذ مئات السنين.
كناشطة نسوية، باتت الكتابة والنشر تحت اسم مستعار في بعض الأحيان، وسيلة لي كذلك لتجنب التعرض إلى الضغوط المجتمعية عند الكتابة عن موضوعات ما زال المجتمع يعتبرها من “التابوهات” – والتي قد تصل إلى الأذى أو العنف المباشر- كوني امرأة، فضلا عن كوني نسوية، تعتبر الصحافة هي أحد أهم أدوات النضال، للمساهمة في التغيير المجتمعي لصالح النساء والدفاع عن حقوقهن.
قد توفر الكتابة المجهلة مساحة للنساء من الحرية للتعبير عن أفكار وموضوعات قد لا يستطعن التعبير عنها في حال الكشف عن هوياتهن، لخطورة ذلك على أمنهن الشخصي، حتى أنها باتت ملاذًا للكثير من الصحفيات والكاتبات في مصر والوطن العربي، حيث توفر لنا حماية – نسبية بطبيعة الحال- من المخاطر التي قد نتعرض لها إذا انكشفت هوياتنا في بعض المساهمات، وفي نفس الوقت تتيح لنا فرصة التعبير عن أفكارنا ومناقشتها وإيصال أصوات النساء قدر المستطاع. لكن بالرغم من ذلك، فإن تجهيل الهوية، ما هو إلا تذكرة لنا – كنساء- بأنه لابد من وجود تحديات مركبة دائما خاصة بنا فقط، تضاف إلى التحديات العامة المشتركة مع الرجال. فحتى إذا انتعشت حرية التعبير وباتت هناك مساحات خالية من التهديدات الأمنية، فهذه المساحات لن تكون كافية للنساء لمناقشة أفكارهن والتعبير عن رؤاهن التحليلية أو النقدية لما يدور في مجتمعاتهن سواء الخاصة أو العامة. والسبب الوحيد في وجود مثل هذه التحديات هو كونهن نساء فقط، وكأن الواقع المفروض يقول لنا: “انتِ امرأة.. فلتدفعي الثمن إذن”.