عن مهام عمل تحرق ما حولها وتحرقنا!


عن الكاتبة:
مدافعة شابة عن حقوق الانسان تنشط في الدفاع عن قضايا حرية التعبير، وقضايا التعدديات الجنسية والجندرية.

تحذير: قد تسبب قراءة هذا النص استجابة عاطفية قوية لدى البعض.
لم يخطر يومًا في بال فتاة مثلي، عاشت سنوات طفولتها ومراهقتها في مجتمع مغلق كصعيد مصر لا يصله الكثير من المعلومات، أنها ستستبدل مسيرتها المهنية من العمل في مجال السياحة إلى العمل في المجتمع المدني، بل إنها لم تكن تدرك بوجود هذا المجتمع من الأساس، وأنها بدلًا عن سرد قصص المومياوات والأجداد الذين غادرونا منذ 7000 عام، سوف تستمع وتوثق العشرات من الروايات/ الشهادات الشخصية لأشخاص تعرضوا لأنواع متعددة من الإساءة والعنف.
تحمست جدًا تجاه ما أقوم به. يا له من عمل نبيل، يلزمه الكثير من المواجدة (التعاطف) مع الآخرين. أخبرني رؤسائي حينها، أن العمل يتطلب تفهم ما تعرض له الضحايا من صدمات. كما أشاروا إلى الجانب المظلم لهذا العمل، والذي قد يتضمن الإصابة بكرب ما بعد الصدمة، أو الاحتراق الوظيفي، أو متلازمات واضطرابات نفسية أخرى، ولكن كان هناك وجه آخر مظلم لم يخبرني به أحد بل اكتشفته بنفسي خلال سنوات عملي، وجه آخر عن الاصطدام بإجهاد العمل وعن الانتهاكات المهنية التي تحدث داخل بيئته والتي تضاعف من احتمالية أصابتنا بالاحتراق الوظيفي.
خلال سنوات عملي السبع في عدة مشاريع في المجتمع المدني/الحقوقي اكتسبت خلالها الكثير من المعرفة عن هذه الاضطرابات والمتلازمات النفسية وأعراضها، التي يمكن أن تحدث جراء ضغط العمل، كي احيط بها علمًا إذا لاحظتها ، واتعامل معها قبل وقوعها.
ربما غرتني الخبرة التي اكتسبتها، حتى ظننت أنني في مأمن منها خلال قيامي بعملي. حسبت أني منيعة ضد التصدع، فظللت أقول لنفسي: “أنا بخير. مازلت قادرة على العمل وأستطيع الصمود. إذن أنا بخير”. صرت (الضم) النهار بالليل والليل بالنهار، وأفترش أريكة منزلي كي أنام عدد ساعات أقل، ثم استيقظ لاستكمال العمل، وتتكدس المهام بين الساعات التي يمكنني اقتطاعها من ساعات نومي.
أردت المزيد وتوظفت في عمل أساسي ثم عمل إضافي وأعمال صغيرة بينهما. “لن يضرني ذلك، فقد قمت به مرات عديدة”، فكرت، “ماذا ستقدم لي الرعاية الذاتية (self care )؟ هل ستسدد لي فواتيري؟ أم ستمنحني تلك الترقية التي أرغب فيها؟ هل ستملأ الفجوة التي بيني وبين متطلبات العمل “السوبر” بشرية التي يطلبها أرباب العمل؟ كذلك كنت حذرة جدًا، وأستطيع السيطرة على أي أمر قد يطرأ في حياتي، أو هكذا ظننت!
كلما خارت قواي، دفعتني للاستمرار مقولة أحد أصدقائي: “نحن أبناء الطبقة المتوسطة خريجي الجامعات الحكومية، يتحتم علينا العمل عدد ساعات إضافية، حتى نواكب متطلبات سوق العمل الطاحن”.
حاولت بكل جهدي أن أعتني بنفسي، وأن أتبع “روتين” للعناية الذاتية، وأزور طبيبي النفسي بانتظام. لكن وسط مقتضيات الحياة الشاقة، والانشغال بين عدة وظائف، تلاشى الاهتمام بالنفس شيئًا فشيئًا، بالإضافة إلى أن العائد المادي الذي أتقاضاه، لا يحتمل الاقتطاع منه من أجل جلسات الطبيب النفسي باهظة الثمن.
كنت أشعر كأن الحياة قطار مسرع، سيسحق جسدي إذا توقفت لحظة عن الركض بكل طاقتي. مرغمة أنا على العمل إلى ما لانهاية، حتى لا يلتهمني القطار. ماذا أملك في حياتي غير الوقت كي أراهن عليه لتتحسن الظروف إلى الأفضل؟ كما أنني خلال هذه العملية، أحببت كوني شخصًا مشغولًا، وراق لي الأمر لدرجة الإدمان، حتى باتت القدرة على الجمع بين عدة وظائف هي إحدى عاداتي، بل صار الانكباب على العمل هو الوسيلة التي أقضي بها معظم وقتي، وذابت وتشوهت حياتي الاجتماعية وسط حياتي المهنية.
على مدار ست سنوات، عملت بشكل مكثف على توثيق عشرات القصص احتوت على شتى أنواع الانتهاكات، لصالح عدة مؤسسات في المجتمع المدني. ذلك في ظل ضغط عمل شديد دون إجازات منتظمة، بالإضافة إلى مديرات/ين متسلطات/ين، وبيئة عمل سامة، وليال طويلة من أداء المهام بدون راحة – خاصة خلال العامين 2019 و2020- حتى استيقظت في صباح أحد الأيام في نهاية 2020 ولم أستطع النهوض. جسدي وروحي امتلأ بالثقل، ونفدت طاقتي. ومع ذلك، كنت ألوم نفسي على عجزي عن العمل. وفي الوقت ذاته، لم أقو على إنجاز أي مهام. شعرت كأن العمل أطنان من الكتل الأسمنتية التي تثقل كاهلي. لم أستطع نسيانها بكل بساطة وتركها جانبًا والإستمتاع بيومي، بل كانت تطاردني كأشباح قتلى لم أتسبب في موتهم. مرت أيام كثر وأنا اتفادى النظر إلى شاشة “اللابتوب”، وكنت أفزع بمجرد سماعي إشعار وصول بريد إلكتروني جديد. كنت أخشاه وأخشى تصفح الرسائل، كأنها نذير شؤم قادم. كان أقل مجهود أقوم به لإرسال “إيميل” كفيلًا بإصابتي بنوبة قلق حاد، تكاد تفقدني قدرتي على التنفس.
استمرت كفاءتي المهنية في التدني حتى توقفت. في الوقت نفسه، لم يتوقف لحظة إحساسي بالذنب، ولم يعد لدي رغبة في فعل شيء على الإطلاق، بداية من العناية اليومية بنفسي، وحتى قيامي بمهام العمل. تقديري لنفسي تداعى، وثقتي بنفسي تناقصت، حتى أنني كنت أدفع نفسي دفعًا خارج الفراش كل صباح. بدون شهية للأكل أعد كوبًا من الشاي، ثم استهل يومي بالتدخين المتواصل، أثناء تحديقي في سقف الردهة، متجنبة النظر لشاشة اللابتوب. كانت تلك المحاولة الاعتيادية لتسجيل الدخول على البريد الإلكتروني، تتطلب الكثير والكثير من الجهد والتركيز.
استمرت هذه الأعراض لعدة أسابيع، لم أكن أحرك خلالها ساكنًا، حتى اضطررت لرؤية المعالجة النفسية الخاصة بي، والتي أخبرتني أخيرًا سبب علتي، والذى وصفته بـ ” الاحتراق الوظيفي”. لم أستوعب الأمر في البداية، كوني تلك “المهووسة” بصحتي النفسية، فكيف يصيبني هذا الاحتراق الوظيفي؟! ماذا حدث! أنا من كنت أتبجح باتباع نظام محكم للرعاية الذاتية، وأحافظ – بشكل شبه منتظم (تبعا للحالة المادية)- على زيارة المعالج النفسي. هل أنا نفس الإنسانة التي احترقت واحترقت معها أفكاري القديمة عن الصحة النفسية؟ واصطدمت بالحقيقة القبيحة، إزاء عجزي أمام وتيرة حياة منهكة أحاول خلالها ألا أسقط، تحت وطأة عمل، سيظل – على الأغلب- طوال الوقت مجهدًا ومرهقًا، وسط بيئات عمل غير صحية لا تقدم لي أي تقدير على ما أبذله من جهد، بل حتى أن بعضها لا تتعامل بجدية مع الاضطرابات النفسية التي تصيب موظفيها نتيجة للضغط الذي يتعرضون له.
قاومت لبعض الوقت وواصلت محاولاتي اليائسة للانتهاء من المهام المتراكمة على كاهلي، حاولت انشاء جدول مهام يومي مكتوب ومنظم، ثم تنتهي الأيام والمهام كما هي، حياتي كلها أصبحت سلسلة من محاولات لا تفضي لنتائج، محاولات النوم والاستيقاظ، محاولات الاغتسال وتناول الطعام، محاولات أداء المهام والإقلاع عن التدخين، كانت حلقة مفرغة من الرتابة كأنه حصار محكم حول روحي وعقلي، حينئذ قررت أن اتخلى عن الأمر واترك الأمور تخرج عن السيطرة، طاقتي استنزفت ولم أعد أرغب في المحاولات، أردت النجاة فقط، وعزمت على تفعيل وضع”الإيقاف المؤقت” (pause) لحياتي، قمت بعدة تدخلات طارئة للنجاة، في تلك اللحظة اكتفيت بما استطيع القيام به مهما كان بسيطًا، بدأت مرحلة من الاستسلام لما يطالب به جسدي من راحة وما يحتاجة عقلي من سكون، تركت عملي حينئذ وقررت أن اترك اي عمل له علاقة بالتوثيق بشكل مباشر واتجه لمجال آخر، واكتفيت بوظيفة واحدة في تلك السنة وقررت الاستمتاع بعمل اللاشىء خلال وقت فراغي، وصرت انام لسبع أو ثمان ساعات كاملات، واكتشف أنشطة جديدة، بدلت ترتيب أولوياتي ولم يعد تأدية مهام عملي في المرتبة الاولى على جدولي في تلك الفترة، مهما كنت احاول كنت أصاب بخيبة الأمل فالمهام لا تُنجز ابدًا.
أصبحت الكتابة إحدى طرقي للتعافي، اكتب عن ما أشعر به بشكل يومي، واكتب قوائم بأسماء الأشياء التي أنا ممتنة على وجودها في حياتي، اتذكر كم هو مزري احساسي بأن حياتي مبعثرة اشلائها في كل مكان، وكنت مجبرة على ترتيب كل تلك الفوضى وحدي، وإعادة إحياء ممارسات اساسية، بل تعتبر اعتيادية في حياتي، هل تنام/ين جيدا؟ هل تأكل/ي عدد وجبات كافية؟ هل تحتاج/ي تخفيض عدد السجائر المحترقة في منفضة السجائر؟ هل حياتك الاجتماعية على ما يرام؟ كنت في حاجة للإجابة عن هذه الاسئلة والكثير غيرها إجابات مفصلة وصادقة حيث لم يعد هناك شاشة الكترونية اختبأ خلفها.لطالما تسألت عن مبرر لما يحدث، عن سبب صعوبة وثقل كل شيء من حولي والذي يزداد تعقيدًا نتيجة كوني امرأة تعيش في مصر، كلما تسلل إلى قلبى احساس بالأسى وشعرت بالعجز، اذكّر نفسي أنني أعيش هنا، في هذه المساحة القاسية، وفي شدة أوقات اليأس أفكر “كم سيكون من الرائع لو كان تناسخ الأرواح حقيقي”، فحينها أتمنى أن تُعطى هذه الروح فرصة أن تولد من جديد في بلد آمن لا أشعر فيه بالخوف من كل شيء، ولا يهددني فيه مالك منزل ولا رئيس/ة عمل ولا غريب في الطرقات، وألا اضطر فيه إلى العمل في عدة وظائف مرهقة كى أعيش في بعض الراحة، وأن أكون معافاة بقدر الإمكان، واقوم بعمل أحبه وشغوفه تجاهه دون أن اتعرض للاحتراق.خضعت لعام كامل من جلسات العلاج النفسي بالإضافة لطرق أخرى سلكتها من أجل ترميم روحي، ويمكن القول انني لم اتعافِ بالكامل ولم استعد شغفي تجاه تأدية عملي إلا بداية من شهر يناير 2022.
في الوقت الحالي لم تعد تملأني الثقة تجاه مناعتي ضد الاحتراق الوظيفي، بل إنني بت اخشاه، أخاف ان تعيد الكرة نفسها وأجد نفسي يومًا لا استطيع النهوض من الفراش مجددًا. في كل الأحوال لقد تعلمت الدرس حيث أنه لا يوجد استثناءات ولا ضمانات أن اظل سليمة معافاة، أحتاج فقط أن أكون على قدر من الاستعداد والتقبل حينما يحدث الأمر مرة أخرى.
في الاحتراقات القادمة سأدع الأمور تخرج عن السيطرة، سأدع جسدي ينهار إذا رغب بذلك، لن أشعر بتأنيب الضمير اذا استغرقت في النوم قليلًا وسأبقى في السرير لوقت أطول حتى استعيد نشاطي، سأكل ما اشتهيت إذا كانت هذه إحدى الطرق لتحسين مزاجي، سأتجول قليلًا في الطرقات قبل موعد التسليم (deadline)، سأظهر لنفسي بعض الحب وأعد وجبتي المفضلة في أيامي المزدحمة، سأمر على الاصدقاء لإلقاء التحية قبل انشغالي لساعات في العمل، سأتقبل أن بعض المهام قد تسقط سهوًا أو عمدًا وسط الزحام، سأحتفل بانتصاراتي الصغيرة وسأقول لنفسي كل يوم “احسنت صنعًا يا فتاة”، وإذا ضاق صدري كثيرًا سأستجمع شجاعتي لأغادر أماكن العمل التي تأكل روحي. في المرات القادمة سأدع العالم ينهار، لأنني مهما حاولت ترميمه سوف ينهار في النهاية، ولكن على الأقل لن اجعله ينهار فوق رأسي.

* حول الاحتراق الوظيفي:
حالة من الإرهاق الجسدي والعقلي والعاطفي تنتج عن الحياة المهنية “هربرت فرودنبرغر”.

مقالات مشابهة